فصل: الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلف بها:

وقد جرت العادة أنه إذا استقر ملك في الملك يحلف له جميع الأمراء والنواب في المملكة، وإذا استقر نائب من النواب في نيابة حلف ذلك النائب عند استقراره؛ وربما اقتضت الحال التحليف في غير هذه الأوقات.
ثم الأيمان التي يحلف بها على ضربين:
الضرب الأول: الأيمان التي يحلف بها الأمراء بالديار المصرية:
وقد جرت العادة أن كتاب ديوان الإنشاء يجتمع من يجتمع منهم بالقلعة، ويتصدى كل واد منهم لتحلف جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم، وينصب المصحف الشريف على كرسي أمام الحالفين، ويحلف كل كاتب من كتاب الإنشاء من يحلفه تجاه المصحف بألفاظ اليمين المتقدمة الذكر على الوجه الذي يرسم تحليفهم عليه؛ ويكتب كل واحد من أولئك الكتاب أسماء الذين حلفهم في ورقة ويؤرخها ويحملها إلى ديوان الإنشاء فتخلد فيه.
الضرب الثاني: الأيمان التي يحلف بها نواب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية وما انضم إليها:
وقد جرت العادة أنه إذا أريد تحليف نائب من نواب الممالك الخارجة عن الحضرة بالديار المصرية أو أمير من أمرائها أن تكتب نسخة يمين من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية، وتجهز إلى النائب أو الأمير الذي يقصد تحليفه فيحلف على حكمها متلفظاً بألفاظها جميعها.
قال في التثقيف: وصفة ما يكتب في النسخة بعد البسملة من يمين الورق أقول وأنا........ ثم يخلي بياضاً قليلاً بقدر أصبعين لموضع كتابة الحالف اسمه، ثم يكتب تحته من يمين الورق بهامش دقيق جداً والله والله والله، وتكمل تتمة النسخة على ما تقدم ذكره. وتكون سطورها متلاصقة سطراً إلى سطر إلى عند قوله: وهذه اليمين يميني وأنا........ فيخلي بعد ذلك بياضاً قليلاً لموضع كتابة اسم الحالف أيضاً؛ ثم يكتب من يمين الورق: والنية في هذه اليمين بأسرها إلى آخر النسخة.
قلت: وكذلك نسخ الأيمان التي تكتب ليحلف بها في الهدن التي تفرد الأيمان فيها عن الهدن، يخلى فيها بياض لكتابة الاسم بعد قوله: أقول وأنا:........ وبعد قوله: وهذه اليمين يميني وأنا........ سواء في ذلك اليمين التي يحلف بها السلطان أو الملك الذي تقع معه المهادنة: من ملوك الإسلام أو ملوك الكفر.
وق جرت العادة أن يكون الورق الذي تكتب فيه نسخ الأيمان التي يحلف بها النواب وغيرهم من الأمراء الخارجين عن الحضرة في قطع العادة. أما ما يحلف به على الهدن فلم أقف فيه على مقدار قطع الورق. والذي يظهر أن كل يمين تكون في قطع الورق الذي يكاتب بها ذلك الملك الذي يحلف.

.المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك:

وفيها ستة أبواب:

.الباب الأول في الأمانات:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في عقد الأمان لأهل الكفر:

قال في التعريف: وهو أقوى أمور الصلح دلالة على اشتداد السلطان، إذ كان يؤمن الخائف أمناً لا عوض عنه في عاجل ولا آجل؛ وفيه طرفان:

.الطرف الأول في ذكر أصله وشرطه وحكمه:

اعلم أن الأمان هو الأمر الأول من الأمور الثلاثة التي يرفع بها القتل عن الكفار.
قال العلماء: وهو من مكايد القتال ومصالحه، وإن كان فيه ترك القتال: لأن الحاجة داعية إليه. والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».
وقد ذكر الفقهاء له أركاناً وشرائط وأحكاماً.
فأما أركانه، فثلاثة: الأول- العاقد للأمان من المسلمين. وليعلم أن الأمان على ضربين: عام وخاص؛ فالعام هو عقده للعدد الذي لا يحصر كأهل ناحية؛ ولا يصح عقد الأمان فيه إلا من الإمام أو نائبه كما في الهدنة. والخاص هو عقده للواحد أو العدد المحصور؛ ويصح من كلمسلم مكلف وإن لم تكن له أهلية القتال، فيصح من العبد والمرأة والشيخ الهرم والسفيه والمفلس، بخلاف أمان الصبي والمجنون.
الثاني- المعقود له، ويصح عقده للواحد والعدد من ذكور الكفار وإناثهم. نعم في تأمين المرأة عن الاسترقاق خلاف.
الثالث- صيغة العقد. وهي كل لفظ يفهم الأمان كناية كان أو صريحاً، وفي معنى ذلك الأشارة المفهمة. ويعتبر فيه قبول الكافر، فلا بد منه، حتى لو رد الأمان لم ينعقد، وفيما إذا سكت خلاف. نعم لو دخل للسفارة بين المسلمين والكفار في تبليغ رسالة ونحوها، أو لسماع كلام الله تعالى لم يعتبر فيه عقد الأمان، بل يكون آمناً بمجرد ذلك؛ أما لو دخل لقصد التجارة بغير أمان فإنه لا يكون آمناً إلا أن يقول الإمام أو نائبه: من دخل تاجراً فهو آمن.
وأما شرطه، فأن لا يكون على المسلمين ضرر في المستأمن: بأن يكون طليعة أو جاسوساً، فإنه يقتل ولا يبالي بأمانه، ويعتبر أن لا تزيد مدة الأمان على سنة بخلاف الهدنة، فقد تقدم أنها تجوز عند ضعف المسلمين إلى عشر سنين.
وأما حكمه، فإذا عقد الأمان لزم المشروط، فلو قتله مسلم وجبت الدية. ثم هو جائز من جهة الكفار، فيجوز للكافر نبذه متى شاء، ولازم من جهة المسلمين، فلا يجوز النبذ إلا أن يتوقع من المستأمن الشر، فإذا توقع منه ذلك جاز نبذ العهد إليه ويلحق بمأمنه؛ وبقية فقه الفصل مستوفى في كتب الفقه.

.الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه:

والأصل ما رواه ابن إسحاق أن رفاعة بن زيد الجذامي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية، فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، وأسلم وحسن إسلامه؛ وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قومه فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد: إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله؛ فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين.
فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا.
ثم للكتاب فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن يفتتح الأمان بلفظ هذا كتاب أمان أو هذا أمان وما أشبه ذلك:
كما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم ما يكتب به لرفاعة بن زيد على ما تقدم، وعلى ذلك كتب عمرو بن العاص رضي الله عنه الأمان الذي كتب به لأهل مصر عند فتحها؛ ونصه بعد البسملة: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا تساكنهم النوبة. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية- إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم- خمسين ألف ألف. وعليه ممن جنى نصرتهم، فإن أبى أحد منهم لأن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدر هم وذمتنا ممن أبى برية، وإن نقص نهرهم عن غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك؛ ومن دخل في صلحهم: من الروم والنوبة فله مالهم وعليه ما عليهم؛ ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا. وعليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم. على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجأبوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً، وكذا وكذا فرساً، على أن لا يغزو ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
وعلى ذلك كتب الحافظ لدين الله أحد خلفاء الفاطميين الأمان لبهرام الأرمني، حين صرف من وزارته وهرب عنه إلى بلاد الأرمن، وكتب إلى الحافظ يظهر الطاعة ويسأل تسيير أقاربه، فكتب له بالأمان له ولأقاربه.
فأما ما كتب له هو فنصه بعد البسملة: هذا أمان أمر بكتبه عبد الله ووليه عبد المجيد أبو الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين للأمير المقدم، المؤيد، المنصور، عز الخلافة وشمسها، وتاج المملكة ونظامها، فخر الأمراء، شيخ الدولة وعمادها، ذي المجدين، مصطفى أمير المؤمنين بهرام الحافظي: فإنك آمن بأمان الله تعالى، وأمان جدنا محمد رسوله، وأبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليهما، وأمان أمير المؤمنين، على نفسك ومالك، وأهلك وجميع حالك، لا ينالك سوء، ولا يصل إليك مكروه، ولا تقصد باغتيال، ولا يخرج بك عن عادة الإحسان والإنعام، والتمييز والإكرام، وحراسة النفس، والصون للحريم والأهل، والرعاية في القرب والبعد، ما دمت متحيزاً إلى طاعة الدولة العلوية، ومتصرفاً على أحكام مشايعتها، موالياً لمواليها، ومعادياً لمعاديها، ومستمراً على مرضاة إخلاصك. فثق بهذا الأمان واسكن إليه، واطمئن إلى مضمونه؛ والله بما أودعه كفيل وعليه شهيد؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب.
وأما الأمان الذي كتب لأقاربه فنصه: هذا أمان تقدم بكتبه عبد الله ووليه، لبسيل وزرقا، وبهرام ابن أختهما، ومن ينتمي إليهم ويتعلق بهم، ويلتزمون أمره ممن دونهم، ومن يتمسك بسببهم، مضمونه: إنكم معشر الجماعة بأسركم لما قصدتم الدولة ووفدتم عليها، وتفيأتم ظلها وهاجرتم إليها، شملكم الصنع الجميل، وغمركم الإنعام السبغ والإحسان الجزيل، وكنفتم بالرعاية التامة، والعناية الخاصة لا العناية العامة، ووفر حظكم من الواجبات المققرة لكم، والإقطاعات الموسومة بكم، وكنتم مع ذلك تذكرون رغبتكم في العود إلى دياركم، والرجوع إلى أوطانكم، والتفافاً إلى من تركتموه من ورائكم. وقد سرتم من الباب على قضية المخافة، وقد أمنكم أمير المؤمنين، فأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدنا محمد رسوله وأبينا أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، صلى الله عليهما، وأمان أمير المؤمنين، على نفوسكم وأهليكم وأموالكم وما تحويه أيديكم ويحوزه ملككم، ويشتمل عليه احتياطكم، لا ينالكم في شيء من ذلك مكروه، ولا سبب مخوف، ولا يمسكم سوء، ولا تخشون من ضيم، ولا تقصدون بأذية، ولا يغير لكم رسم، ولا تنقض لكم عادة، وأنتم مستمرون في واجباتكم وإقطاعاتكم على ما عهدتموه، ولا تنقصون منها، ولا تبخسون فيها. هذا إذا رغبتم في الإقامة في ظلال الدولة؛ فإن آثرتم ما كنتم تذكرون الرغبة فيه من العودة إلى دياركم عند انفتاح البحر، فهذا الأمان لكم إلى أن تتوجهوا مشمولين بالرعاية، ملحوظين بالعناية، ولكم الوفاء بجميع ذلك؛ والله لكم به وكيل وكفيل، وكفى به شهيداً.
المذهب الثاني: أن يفتتح الأمان المكتتب لأهل الكفر بالتحميد:
ثم يقال: ولما كان كذا وكذا اقتضى حسن الرأي الشريف كذا وكذا ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يكون كذا وكذا على نحو ما يكتب في الولايات.
وعلى ذلك كتب عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أمان لفراكس صاحب السرب من ملوك النصارى بالشمال وزوجته ومن معهما من الأتباع، عند طلبهم التمكين من زيارة القدس الشريف، وإزالة الأعراض عنهم، واستصحاب العناية بهم، إلى حين عودهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء.
ونصه بعد البسملة: أما بعد حمد الله الذي أمن بمهابتنا المناهج والمسالك، ومكن لكلمتنا المطاعة في الأقطار والآفاق والممالك، وأعان على لساننا بدعوة الحق التي تنفي كل كرب حاك وتكفي كل كرب حالك، والشهادة له بالوحدانية التي تنفي المشابه والمشارك، وتفي بالميعاد من الإصعاد على الأرائك، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده ببعوث الملإ الأعلى من الملائك، وأيده بالصون الملازم والعون المتدارك، ووعده ان سيبلغ ملك أمته ما بين المشرق والمغرب وأنجز له ذلك، وعلى آله وصحبه الذين زحزحوا عن المهالك، ونصحوا الله ورسوله وأكرم بأولئك!!!- فإن كرمنا يرعى الوفود، وشيمنا تدعى فتجود، وذممنا بها لحظ الحقوق وحفظ العهود؛ فبخدمنا ينجح كل مقصود، وبنعمنا تمنح الأماني والمنى وهما أعظم نعمتين في الوجود؛ فليس آمل عن أبواب سماحنا بمردود، ولا متوسل إلينا بضراعة إلا ويرجع بالمرام ويعود.
ولما كانت حضرة الملك الجليل، المكرم، المبجل، العزيز، الموقر، إستيفانوس فراكس: كبير الطائفة النصرانية، جمال الأمة الصليبية، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، صاحب السرب- أطال الله بقاءه- قد شمله إقبالنا المعهود، ووصله إفضالنا الذي يحجز عن ميامنه السوء وينجز الوعود- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نيسر سبيله، ونوفر له من الإكرام جسيمه كما وفرنا لغيره من الملوك مسوله، وأن يمكن من الحضور هو وزوجته ومن معهما من اتباعهما إلى زيارة القدس الشريف، وإزالة الأعراض عنهم، وإكرامهم ورعايتهم، واستصحاب العناية بهم، إلى أن يعودوا إلى بلادهم، آمنين على أنفسهم وأموالهم، ويعاملوا بالوصية التامة، ويواصلوا بالكرامة والرعاية إلى أن يعودوا في كنف الأمن وحريم السلامة؛ وسبيل كل واقف عليه إن يسمع كلامه، ويتبع إبرامه، ولا يمنع عنهم الخير في سير ولا إقامة، ويفع عنهم الأذى حيث وردوا أمير المؤمنين صدوا فلا يحذروا إلمامه؛ والله تعالى يوفر لكل مستعين من أبوابنا أقساط الأمن وأقسامه، ويظفر عزمنا المحمدي بالنصر السرمدي حتى يطوق الطائع والعاصي حسامه. والعلامة الشريفة أعلاه حجة فيه؛ والخير يكون إن شاء الله تعالى.

.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة التاسعة في كتابة الأمانات لأهل الإسلام وما يكتب فيها ومذاهب الكتاب في ذلك في القديم والحديث وأصله:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في أصله:

اعلم أن هذا النوع فرع ألحقه الكتاب بالنوع السابق، وإلا فالمسلم آمن بقضية الشرع بمجرد إسلامه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». وإنما جرت عادة الملوك بكتابة الأمان لكل من خاف سطوتهم، لا سيما من خرج عن الطاعة، وخيف استشراء الفساد باستمرار خروجه عن الطاعة، خوفاً، حتى صار ذلك هو أغلب ما يكتب من دواوين الإنشاء.
وقد ورد في السنة ما يدل لذلك، وهو ما رواه أبو عبيد في كتاب كتاب الأموال عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير أنه قال: كنا بالمربد ومعنا مطرف إذ أتانا أعرابي ومعه قطعة أديم، فقال: أفيكم من يقرأ؟ قلنا: نعم، فأعطاناالأديم فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لبني زهير بن أقيش من عكل. إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقمتم الصلاة، وأتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم من الغائم الخمس، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي؛ أو قال: وصفية فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله.

.الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات:

وللكتاب في ذلك مذهبان:
المذهب الأول: أن يفتتح الأمان بلفظ هذا كتاب أمان:
أو هذا أمان ونحو ذلك على ما تقدم في الفصل السابق، قال في مواد البيان: والرسم فيه: هذا كتاب أمان، كتبه فلان بن فلان الفلاني، أمير المؤمنين أو وزيره، لفلان بن فلان الفلاني الذي كان من حاله كذا وكذا، فإنه قد أمنه بأمان الله تعالى وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمانه. فإن كان عن الوزير قال: وأمان أمير المؤمنين فلان بن فلان وأمانه، على نفسه وماله، وشعره، وبشره، وأهله، وولده، وحرمه، أشياعه، وأتباعه، وأصحابه، وحاله، وذات يده، وأملاكه، ورباعه، وضياعه، وجميع ما يخصه ويخصهم- أماناً صحيحاً، نافذاً واجباً لازماً، لا ينقص ولا يفسخ ولا يبدل، ولا يتعقب بمخاتلة، ولا دهان ولا مواربة، ولا حيلة، ولا غيلة، وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه، بنية خالصة له يوم تاريخ هذا الأمان، وأحله من ذلك كله، واستقبله بسلامة النفس ونقاء السريرة، وأوجب له من الرعاية ما أوجبه لأمثاله، ممن شمله ظله، وكنفه رعايته، حاضراً وغائباً، وملكه من اختياره قريباً وبعيداً، وأن لا يكرهه على ما لا يريده، ولا يلزمه بما لا يختاره ز قلت: هذا ما أصله صاحب مواد البيان في كتابة الأمانات؛ ومقتضاه افتتاح جميع الأمانات المكتتبة عن الخليفة أو الوزير أو غيرهما بلفظ هذا.
وسيأتي أن الأمانات قد تفتتح بغير هذا الافتتاح: من الحمد وغيره، على ما سيأتي بيانه، ولعل هذا كان مصطلح زمانه فوقف عنده.
وبالجملة فالأمانات المكتتبة لأهل الإسلام على نوعين:
النوع الأول: ما يكتب عن الخلفاء:
وفيه مذهبان:
المذهب الأول: طريقة صاحب مواد البيان المتقدمة الذكر:
وهي أن يفتتح الأمان بلفظ هذا وحينئذ فيقال: هذا كتاب أمان كتبه عبد الله فلان أبو فلان أمير المؤمنين الفلاني، أعز الله تعالى به الدين، وأدام له التمكين، لفلان الفلاني، فإنه قد أمنه بأمان الله تعالى، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمانه، على نفسه، وماله، وشعره، وبشره، وأهله، وولده، وحرمه، وأشياعه، وأتباعه، وأصحابه، وحاله، وذات يده، وأملاكه، ورباعه، وضياعه، وجميع ما يخصه ويخصهم- أماناً صيحاً، نافذاً واجباً لازماً، لا ينقض ولا يفسخ، ولا يبدل، ولا يتعقب بمخاتلة، ولا دهان ولا مواربة، ولاحيلة ولا غيلة، وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه، بنية خالصة له ولجميع من ذكر معه، وعفا له عن كل جريرة متقدمة، وخطيئة سالفة، إلى يوم تاريخ هذا الأمان، وأحله من ذلك كله، واستقبله بسلامة النفس ونقاء السريرة، وأوجب له من الرعاية ما أوجبه لأمثاله: ممن شمله ظله، وكنفته رعايته، حاضراً وغائباً، وملكه من اختياره قريباً وبعيداً، وأن لا يكرهه على ما لا يريده، ولا يلزمه بما لا يختاره. وغير ذلك مما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام.
المذهب الثاني: أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد:
والرسم فيه أن يستفتح الأمان بخطبة يكرر فيها الحمد مرتين أو ثلاثاً فأكثر، بحسب ما يقتضيه حال النعمة على من يصدر عنه الأمان في الاستظهار على من يؤمنه. يحمد الله في المرة الأولى على آلائه، وفي الثانية على إعزاز دينه، وفي الثالثة على بعثة نبيه، وفي الرابعة على إقامة ذلك الخليفة من بيت النبوة لإقامة الدين؛ ويأتي مع كل واحدة منها بما يناسب ذلك، ثم يذكر الأمان في الأخيرة.
وهذه نسخة أمان من هذا النمط، كتب به عن بعض متقدمي خلفاء بني العباس ببغداد، أوردها أبو الحسين أحمد بن سعيد في كتاب البلاغة الذي جمعه في الترسل: الحمد لله المرجو فضله، المخوف عدله، باريء النسم، وولي الإحسان والنعم، السابق في الأمور علم، النافذ فيها حكمه، بما أحاط به من ملك قدرته، وأنفذ من عزائم مشيئته؛ كل ما سواه مدبر مخلوق وهو أنشاه وابتداه، وقدر غايته ومنتهاه.
والحمد لله المعز لدينه، الحافظ من حرماته ما تربض المتربضون عن حياطته، المذكي من نوره ما دأب الملحدون لإطفائه حتى أعلاه وأظهره كما وعد في منزل فرقانه بقله جل ثناؤه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
والحمد لله الذي بعث محمداً رحمة للعالمين، وحجة على الجاحدين، فختم به النبيين والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وجعله الداعي إلى دين الحق، والشهيد على جميع الخلق، فأدى إليهم ما استودع من الأمانة، وبلغهم ما حمل من الرسالة،؛ فلما أنقذ الله به من التورط في الضلالة، والتهور في العمى والجهالة، وأوضح به المعالم والآثار، ونهج به العدل والمنار اختار له ما لديه، ونقله إلى ما أعد له في دار الخلود، من النعيم الذي لا ينقطع ولا يبيد، ثم جعله في لحمته وأهله وراثة بما قلدهم من خلافته في أمته، وقدم لهم شواهد ما اختصهم به من الفضيلة، وزلفة الوسيلة، في كتابه الناطق، على لسان نبيه الصادق صلى الله عليه وسلم- منها ما أخبر به من تطهيره إياهم: ليجعلهم لما اختاره معدناً ومحلاً، إذ يقول جل وعز: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، ومنها ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من مسألته أمته المودة؛ فقد أوضح لذوي الألباب أنهم موضع خيرته، بتطهيره إياهم، وأهل صفوته، بما افترض من مودتهم، وولاة الأمر الذين قرن طاعتهم بطاعته.
ولم يزل الله بعظيم منه وإنعامه يدعم أركان دينه، ويشيد أعلام هداه، بإعزاز السلطان الذي هو ظله في أرضه، وقوام عدله وقسطه، والحجاز الذائد لهم عن التظالم والتغاشم، والحصن الحريز عند مخوف البوائق وملم النوائب؛ فليس يكيد ولاته المستقلين بحق الله فيه كائد، ولا يجحد لهم من حق الطاعة جاحد، إلا انطوى على غش الأمة، ومحاولة التشتيت للكلمة.
والحمد لله على ما تولى به أمير المؤمنين غي البدء والعاقبة: من الإدلاء بالحجة، والتأييد بالغلبة، عند نشوه من حيز وطأة الخفض، متبعاً لكتاب الله حيث سلك به حكمه، مقتفياً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انسابت أمامه، باذلاً نفسه، لا يصده وعيد من تكبر وعتا، ولا يوحشه خذلان من أدبر وتولى، منتظراً لمن نكث عهده وغدر بيعته والتمس المكر به في حقه الآيات الموجبة في قوله: {ثم بغي عليه لينصرنه الله}، {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}، مكتفياً بالله ممن خذله، مستعيناً به على من نصب، لا يستفزه ما أجلب به الشيطان من خيله ورجله، وهو في أنصاره المعتصمين، لا تستهويهم الشبه في بصائرهم، ولا تخونهم قواعد عزائمهم في ساعة العسرة من بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم؛ فكتبهم أمير المؤمنين، وأنهدهم لعدوه، فليس يلفتهم عن حقهم ما يتلقون به من الترغيب والترهيب، ولا يزدادون على عظيم التهاويل والأخطار إلا تقحماً وإقداماً، متمثلين لسير إخوانهم قبلهم فيما اقتص الله عليهم من شأنهم، إذ يقول جل وعز: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وكان بداية جند أمير المؤمنين في حربهم التقدم بالإعذار والإنذار، والتخويف بالله جل وعز وأيامه، وما هم مسؤولون عنه في مقامه: من عهوده المؤكدة عليهم في حرمه، وبين ركن كعبته ومقام خليله، المعلقة في بيته، الشاهد عليها وفوده.
فكان أول ما بصرهم الله به حجته التي لا يقطعها قاطع، ولا يدفعها دافع، ثم ما جعلهم الله من التناصر والتوازر الذي فت في أعضادهم، ورماهم به من التخاذل والتواكل؛ فكلما نجمت لهم قرون اجتثها الله بحد أوليائه، وكلما مرق منهم مارق أسال الله مهجته، وأورثهم أرضه ودياره.
ومخلوعهم المبتديء بما عادت عليهم نقمته ونكاله قد أعلق بالردة، وصرحت شياطينه بالغدر والنكث، يرى بذلك الذل في نفسه وحزبه، وتنتقض عليه الأرض من أطرافها وأقطارها، ويؤتى بنيانه من قواعده، ويرد الله جيوشهم مفلولة، وجنودهم مخلاة عن مراكزها، مقموعاً باطلها؛ وليس مع ما ناله من سخط الله جل وعز نازعاً عن انتهاك محارمه ومآثمه، ولا محدثاً عن جائحة يحلها به إحجاماُ عن التقحم في ملاحمه الملبسة له في عاجل ما يرديه ويوبقه، وآجل ما يرصد الله به المعاندين عن سبيله، الناكبين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمير المؤمنين- إذ جمع الله له متباين الألفة، وضم له منتشر الفرقة على معرفته بحربه وحزبه، وعدوه ووليهن ومن سعى له أو عليه، أو أطاع الله أو عصاه قيه: من واف ببيعة، أو خاتر بال وذمة- جدير- أن يعم بجميل نظره كافة رعيته، ويتعطف عليهم بحسن عائدته، ويشملهم بمبسوط عدله وكريم عفوه، وتقديم أهل الأفكار المحمودة في المواطن المشهودة، بما لم تزل أنفسهم تشرئب إليه، وأعينهم ترنو نحوه، لتحمد عنهم عافية الطاعة، ويعجل لهم الوفاء بما وعدهم من الجزاء، إلى ما ذخره لهم من حسن المثوبة ومزيد الشكران. وأمر لفلان بكذا، ولمن قبله من أهل الغناء بكذا، وأمن الأسود والأحمر، ما خلا الملحد ابن الربيع، فإنه سعى في بلاد الله وعباده سعي المفسدين، والتمس نقض وثائق الدين.
فجميع من حل مدينة السلام آمنون بأمان الله، غير متبعين بترة، ولا مطلوبين بإحنة، فلا تدخلن أحداً وحشة منهم لضغينة يظن بأمير المؤمنين الانطواء عليها، ولا يحملنه ما عفا عنه من ذنبه على خلاف ما هو مستوجب من ثواب طاعته أو نكال معصيته، فإن الله جل وعز يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}.
فاحمدوا الله على ما ألهم خليفتكم، من إثابة أهل السوابق منكم بأوفى سعيهم، والتطول على عامة جنده بما شملهم برفقه وحسنت عليهم عائدته، وما تعطف به على أهل التفريط: من إقالة هفواتهم وعثراتهم، صدوركم، ورد ألفتكم إلى أحسن ما يكون، وصرتم بين متقدم بغناء، ومقمع بإحسان؛ فحافظوا على ما يرتبط به راهن النعمة، ويستدعي به حسن المزيد، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام: ما يكتب به عن الملوك:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما كان يكتب من هذا النمط في الزمن السابق مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم:
ولهم فيه أسلوبان:
الأسلوب الأول: أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان:
وهذه نسخة أمان من هذا الأسلوب، كتب بها أبو إسحاق بن هلال الصابي، عن صمصام الدولة، بن عضد الدولة، بن ركن الدولة، بن بويه الديلمي لبعض من كان متخوفاً منه؛ وهو: هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملة أبي كاليجار، بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع، بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين- لفلان بن فلان.
إنك ذكرت رغبتك في الانحياز إلى جملتنا، والمصير إلى حضرتنا، والسكون إلى ظلنا، والسكنى في كنفنا، والتمست التوثقة منا بما تطيب به نفسك، ويطمئن إليه قلبك، فتقبلنا ذلك منك، وأوجبنا به الحق والذمام لم، وأمانك بأمان الله جل ثناؤه، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمان أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وأماننا- على نفسك، وجوارح، وشعرك، وبشرك، وأهلك، وولدك، ومالك، وذات يدك: أماناً صحيحاً ماضياً نافذاً، واجباً لازماً؛ ولك علينا بالوفاء به إذا صرت إلينا عهد الله وميثاقه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله غير نقض له ولا فسخ لشيء منه، ولا تأول عليك فيه على كل وجه وسبب.
ثم إنا نتنأولك إذا حضرت بالإحسان والإجمال، والاصطناع والإفضال، موفين بك على أملك، ومتجاوزين حد ظنك وتقديرك. فاسكن إلى ذلك وثق به، وتيقن أنك محمول عله، ومفض إليه. ومن وقف على كتابنا هذا: من عمال الخراج والمعاون وسائر طبقات الأولياء والمتصرفين في أعمالنا، فليعمل بما فيه، وليحذر من تجاوزه أو تعديه، إن شاء الله تعالى.
وعلى نحو ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ذلك كتب أبو إسحاق الصابي، عن صمصام الدولة المقدم ذكره، الأمان لجماعة المنتفق، بواسطة محمد بن المسيب؛ وهو: هذا كتاب منشور من صمصام الدولة، وشمس الملة، أبي كاليجار، بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع، بن ركن الدولة أبي علي، مولى أمير المؤمنين لجماعة من العرب من المنتفق، الراغبين في الطاعة والداخلين فيها مع أولياء الدولة.
إن محمد بن المسيب سأل في أمركم، وذكر رغبتكم في الخدمة، والانحياز إلى الجملة، والتمس أمانكم على نفوسكم وأموالكم، وأهلكم وعشيرتكم، على أن تلزموا الأستقامة، وتسلكوا سبيل السلامة، ولا تخيفوا سبيلاً، ولا تسعوا في الأرض فساداً، ولا تخالفوا للسلطان وولاة أعماله أمراً، ولا تؤوا له عدواً، ولا تعادوا له ولياً، ولا تجيروا أحداً خرج عن طاعته، ولا تذموا لأحد طلبه، ولا تخونوا في سر ولا جهر، ولا قول ولا عمل، فرأينا قبول ذلك منكم، وإجابة محمد إلى ما رغب فيه عنكم، وتضمنته العهدة فيما عقد من هذا الأمان لكم على شرائطه المأخوذة عليكم: في الكف عن الرعية والسابلة، وأهل السواد والحاضرة، وترك التعرض للمال والدم، أو الانتهاك لذمة أو محرم، أو الارتكاب لمنكر أو مأثم.
فكونوا على هذه الحدود قائمين، وللصحة والاستقامة معتقدين، ولأحداثكم ضابطين، وعلى أيدي سفهائكم آخذين؛ وأنتم مع ذلك آمنون بأمان الله جل جلاله، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمان مولانا أمير المؤمنين، وأماننا: على نفوسكم وأموالكم وأحوالكم، وكل داخل في هذا الأمان وشرائطه معكم: من أهلكم وعشيرتكم وأتباعكم، ومن ضمته حوزتكم.
ومن قرأ هذا الكتاب من عمال الخراج والمعاون، والمتصرفين في الحمارة والسيارة وغيرهم من جميع الأسباب، فليعمل بمتضمنه، وليحمل جماعة هؤلاء القوم على موجبه، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن لا يتعرض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان:
وهذه نسخة أمان على هذا الأسلوب، أورده أبو الحسين بن الصابي في كتابه غرر البلاغة، ونصه بعد البسملة: هذا كتاب من فلان مولى أمير المؤمنين لفلان.
إننا أمناك على نفسك ومالك وولدك وحرمك، وسائر ما تحويه يدك، ويشتمل عليه ملكك، بأمان الله جلت أسماؤه، وعظمت كبرياؤه، وأمان محمد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأماننا- أماناً صحيحاً غير معلول، وسليماً غير مدخول، وصادقاً غير مكذوب، وخالصاً غير مشوب، لا يتداخله تأويل، ولا يتعقبه تبديل، قد كفله القلب المحفوظ، وقام به العهد الملحوظ- على أن تشملك الصيانة فلا يلحقك اعتراض معترض، وتكنفك الحراسة فلا يطرقك اغتماض مغتمض، وتعزك النصرة فلا ينالك كف متخطف، ولا تمتد إليك يد متطرف، بل تكو في ظل السلامة راتعاً، وفي محاماة الأمانة وادعاً، وبعين المراعاة ملحوظاً، ومن كل تعقب وتتبع محفوظاً؛ لك بذلك عهد الله الذي لا يخفر، ومواثيقه التي لا تنكث، وذمامه الذي لا يرفض، وعهده الذي لا ينقض.
المذهب الثاني مما يكتب به الأمانات لأهل الإسلام: أن يفتتح الأمان بلفظ رسم:
كما تفتتح صغار التواقيع والمراسيم وهي طريقة غريبة.
الضرب الأول: أن تفتح كصغار التواقع والمراسيم:
وهذه نسخة أمان على هذا النمط، أوردها ممد بن المكرم أحد كتاب ديوان الإنشاء في الدولة المنصورية قلاوون في تذكرته التي سماها: تذكرة اللبيب كتب بها عن المنصور قلاوون المقدم ذكره، للتجار الذي يصلون إلى مصر من الصين والهند والسند واليمن والعراق وبلاد الروم، من إنشاء المولى فتح الدين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية؛ وهي:
رسم- أعلى الله الأمر العلي- لا زال عدله يحل الرعايا من الأمن في حصن حصين، ويستخلص الدعاء لدولته الزاهرة من أهل المشارق والمغارب فلا أحد إلا وهو من المخلصين، ويهيء برحابها للمعتفين جنة عدن من أي أبوابها شاء الناس دخولاً: من العراق، من العجم، من الروم، من الحجاز، من الهند، من الصين- أنه من أراد من الصدور الأجلاء الأكابر التجار وأرباب التكسب، وأهل التسبب، من أهل هذه الأقاليم التي عددت والتي لن تعدد، ومن يؤثر الورود إلى ممالكنا إن أقام أو تردد- النقلة إلى بلادنا الفسيحة أرجاؤها، الظليلة أفياؤها وأفناؤها، فليعزم عزم من قدر الله له في ذلك الخير والخيرة، ويحضر إلى بلاد لا يحتاج ساكنها إلى ميرة ولا إلى ذخيرة لأنها في الدنيا جنة عدن لمن قطن، ومسلاة لمن تغرب عن الوطن؛ ونزهة لا يملها بصر، ولا تهجر للإفراط في الخصر، والمقيم بها في ربيع دائم، وخير ملازم؛ ويكفيها أن من بعض أوصافها أنها شاملة الله في أرضه، وأن بركة الله حاصلة في رحل من جعل الإحسان فيها من قراضه والحسنة من قرضه، ومنها ما إذا أهبط إليها آمل كان له ما سأل، إذ أصبحت دار إسلام بجنود تسبق سيوفهم العذل؛ وقد عمر العدل أوطانها، وكثر سكانها، واتسعت أبنيتها إلى أن صارت ذات المدائن، وأيسر المعسر فيها فلا يخشى سورة المداين؛ إذ المطالب بها غير متعسرة، والنظرة فيها إلى ميسرة، وسائر الناس وجميع التجار، لا يخشون فيها من يجور فإن العدل قد أجار.
فمن وقف على رسومنا هذا من التجار المقيمين باليمن والهند، والصين والسند، وغيرهم، فليأخذ الأهبة في الارتحال إليها، والقدوم عليها، ليجد الفعال من المقال أكبر، ويرى إحساناً يقابل في الوفاء بهذه العهود بالأكثر، ويحل منها في بلدة طيبة وبر غفور، وفي نعمة جزاؤها الشكر- وهل يجازى إلا الشكور- وفي سلامة في النفس والمال، وسعادة تجلي الأحوال وتمول الآمال؛ ولهم منا كل ما يؤثرونه من معدلة تجيب داعيها، وتحمد عيشهم دواعيها، وتبفي أموالهم على مخلفيهم، وتستخلصهم لأن يكونوا متفيئين في ظلالها وتصطفيهم؛ ومن أحضر معه بضائع من بهار وأصناف تحضرها تجار الكارم فلا يحاف عليه في حق، ولا يكلف أمراً يشق، فقد أبقى لهم العدل ما شاق ورفع عنهم ما شق؛ ومن أحضر معه منهم مماليك وجواري فله في قيمتهم ما يزيد على ما يريد، والمسامحة بما يتعوضه بثمنهم على المعتاد في أمر من يجلبهم من البلد القريب فكيف من البعيد: لأن رغبتنا مصروفة إلى تكثير الجنود، ومن جلب هؤلاء فقد أوجب حقاً على الجود؛ فليستكثر من يقدر على جلبهم، ويعلم أن تكثير جيوش الإسلام هو الحاث على طلبهم: لأن الإسلام بهم اليوم في عز لواؤه المنشور، وسلطانه المنصور، ومن أحضر منهم فقد أخرج من الظلمات إلى النور، وذم بالكفر أمسه وحمد بالإيمان يومه، وقاتل عن الإسلام عشيرته وقومه.
هذا مرسومنا إلى كل واقف عليه من تجار شأنهم الضرب في الأرض: {يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}، ليقرأوا منه ما تيسر لهم من حكمه، ويهتدوا بنجمه، ويغتدوا بعلمه، ويمتطوا كاهل الأمل الذي يحملهم على الهجرة، ويبسطوا أيديهم بالدعاء لمن يستدني إلى بلاده الخلائق ليفوزوا من إحسانه بكل نضارة وبكل نظرة، ويغتنموا أوقات الربح فإنها قد أدنت قطافها، وبعثت بهذه الوعود الصادقة إليهم تحقق لهم حسن التأميل، وتثبت عندهم أن الخط الشريف أعلاه الله حاكم بأمر الله على ما قالته الأقلام ونعم الوكيل.
قلت: هذا المكتوب وإن لم يكن صريح أمان فإنه في معنى الأمان، كما أشار إليه ابن المكرم؛ وفيه غرابتان: إحداهما- الافتتاح برسم، والثانية- الكتابة به إلى الآفاق البعيدة والأقطار النائية، إشارة إلى امتداد لسان قلم هذه المملكة إليهم.
الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا:
وهي صنفان:
الصنف الأول: ما يكتب من الأبواب السلطانية:
والنظر فيه من جهة قطع الورق، ومن جهة الطرة، ومن جهة ما يكتب في المتن.
فأما قطع الورق فقد قال في التثقيف: إن الأمان لا يكتب إلا في قطع العادة.
قلت: والذي يتجه أن تكون كتابة أمان كل أحد في نظير قطع ورق المكاتبة إليه. فإن كان ممن كتب المكاتبة إليه في قطع العادة، كتب له في قطع العادة. وإن كان في قطع فوق ذلك، كتب فيه.
وأما الطرة فقد قال في التثقيف: إنه يكتب في أعلى الدرج في الوسط، الاسم الشريف، كما في المكاتبات وغيرها، ثم يكتب من أول عرض الورق إلى آخره كما في سائر الطرر ما صورته: أمان شريف لفلان بن فلان الفلاني بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة، أو إلى بلده أو مكانه، أو نحو ذلك آمناً على نفسه وأهله وماله، لا يصيبه سوء، ولا يناله ضيم، ولا يمسه أذى، على ما شرح فيه.
قلت: والعلامة في الأمان الاسم؛ والبياض بعد الطرة على ما في المكاتبات إما وصلان أو ثلاثة، بحسب ما تقتضيه رتبة صاحب الأمان، وبحسب ما يقتضيه الحال: من مداراة من يكتب له الأمان: لخوف استشراء شره وما يخالف ذلك.
وأما متن الأمان: فإنه تكتب البسملة في أول الوصل الثالث أو الرابع، بهامش من الجانب الأيمن كما في المكاتبات، ثم يكتب سطر من الأمان تحت البسملة على سمتها، ويخلى موضع العلامة بياضاً كما في المكاتبات، ثم يكتب السطر الثاني وما يليه على نسق المكاتبات.
قال في التعريف: ويجمع المقاصد في ذلك أن يكتب بعد البسملة: هذا أمان الله تعالى وأمان نبيه محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وأماننا الشريف، لفلان بن فلان الفلاني ويذكر أشهر أسمائه وتعريفه، على نفسه وأهله وماله، وجميع أصحابه وأتباعه وكل ما يتعلق به: من قلي وكثير، وجليل وحقير- أماناً لا يبقى عه خوف ولا جزع في أول أمره ولا آخره، ولا عاجله ولا آجله، يخص ويعم، وتصان به النفس والأهل والولد والمال وكل ذات اليد. فليحضر هو وبنوه، وأهله وذووه وأقربوه، وغلمانه وكل حاشيته، وجميع ما يملكه من دانيته وقاصيته، وليصل بهم إلينا، ويفد على حضرتنا في ذمام الله وكلاءته وضمانة هذا الأمان، له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يناله مكروه منا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرض إليه بسوء ولا أذى، ولا يرنق له مورد بقذى؛ وله منا الإحسان، والصفاء بالقلب واللسان، والرعاية التي تؤمن سربه وتهنيء شربه ويطمئن بها خاطره، وترفرف عليه كالسحاب لا يناله إلا ماطره.
فليحضر واثقاً بالله تعالى وبهذا الأمان الشريف؛ وقد تلفظنا له به ليزداد وثوقاً، ولا يجد بعده سوء الظن إلى قلبه طريقاً. وسبيل كل واقف عليه إكرامه في حال حضوره، واجراؤه على أحسن ما عهد من أموره؛ وليكن له ولكل من يحضر معه أوفر نصيب من الإكرام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
وذكر في التثقيف: بصيغة أخرى أخصر من هذه؛ وهي: هذا أمان الله عز وجل، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأماننا الشريف لفلان بن فلان الفلاني، بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة آمناً على نفسه وأهله وماله، لا يصيبه سوء، ولا يناله ضيم، ولا يمسه أذى. فليثق بالله وبهذا الأمان الشريف ويحضر إلى الأبواب الشريفة، آمناً مطمئناً، لا يصيبه سوء، ولا يناله أذى في نفس ولا مال ولا أهل ولا ولد. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، والله الموفق بمنه وكرمه.
وزاد فقال: ثم هذا هو الأمر المستقر من ابتداء الحال وإلى آخر وقت، لم يكتب خلاف ذلك. غير أن القاضي شهاب الدين ذكر النسخة المذكورة بزيادات حسنة لا بأس بها، لكنني لم أر أنه كتب بها في وقت من الأوقات. ثم قال: وهي في غاية الحسن، وكان الأولى أن لا يكتب إلا هي.
قلت: وقد رأيت عدة نسخ أمانات فيها زيادات ونقص عما ذكره في التعريف والتثقيف. والتحقيق ما ذكره صاحب مواد البيان: وهو أن مقاصد الأمان تختلف باختلاف الأحوال، والذي يضبط إنما هو صورة الأمان، أما المقاصد فإن الكاتب يدخل في كل أمان ما يليق به مما يناسب الحال.
وهذه نسخة أمان، كتب بها لأسد الدين رميثة أمير مكة، في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري؛ وهي:
هذا أمان الله سبحانه تعالى، وأمان رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأماننا الشريف، للمجلس العالي الأسدي رميثة ابن الشريف نجم الدين محمد بن أبي نمي: بأن يحضر إلى خدمة السنجق الشريف المجهز صحبة الجناب السيفي أيتمش الناصري، آمناً على نفسه وماله وأهله وولده وما يتعلق به، لا يخشى حلول سطوة قاصمة، ولا يخاف مؤاخذة حاسمة، ولا يتوقع خديعة ولا مكراً، ولا يجد سوءاً ولا ضراً، ولا يستشعر مهابة ولا وجلاً، ولا يرهب بأساً وكيف يرهب من أحسن عملاً؟؛ بل يحضر إلى خدمة السنجق آمناً على نفسه وماله وآله، مطمئناً واثقاً بالله وبرسوله وبهذا الأمان الشريف المؤكد الأسباب، المبيض للوجوه الكريمة الأحساب؛ وكل ما يخطر بباله أنا نؤاخذه به فهو مغفور، ولله عاقبة الأمور؛ وله منا الإقبال والتأمير والتقديم، وقد صفحنا الصفح الجميل: {إن ربك هو الخلاق العليم}.
فليثق بهذا الأمان الشريف ولا تذهب به الظنون، ولا يصغ إلى الذين لا يعلمون، ولا يستشير في هذا الأمر غير نفسه، ولا يظن إلا خيراً فيومه عندنا ناسخ لأمسه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً».
فتمسك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى، واعمل عمل من لا يضل ولا يشقى؛ ونحن قد أمناك فلا تخف، ورعينا لك الطاعة والشرف؛ عفا الله عما سلف؛ ومن أمناه فقد فاز؛ فطب نفساً وقر عيناً فأنت أمير الحجاز.
قلت: هذا الأمان إنشاء مبتكر مطابق للواقع، وهكذا يجب أن يكون كل أمان يكتب.
وهذه نسخة أمان كتب بها عن السلطان الملك الظاهر برقوق عند محاصرته لدمشق بعد خروجه من الكرك بعد خلعه من السلطنة: أمن فيها أهل دمشق خلا الشيخ شهاب الدين بن القرشي وجردمر الطاربي، كتب في ليلة يسفر صباحها عن يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة؛ وهي: هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان نبيه سيدنا محمد نبي الرحمة، وشفيع الأمة، وكاشف الغمة، صلى الله عليه وسلم، وأماننا لكل واقف عليه من أهل مدينة دمشق المحروسة: من القضاة، والمفتين، والفقهاء، وطالبي العلم الشريف، والفقراء والمساكين، والأمراء، والأجناد، والتجار، والمتسببين، والشيوخ، والكهول والشبان، والكبار والصغار، والذكور والإناث، والخاص والعام من المسلمين وأهل الذمة، إلا جردمر الطاربي، وأحمد بن القرشي- على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وأهلهم، وحرمهم، وأصحابهم، وأتباعهم، وغلمانهم، وقبائلهم، وعشائرهم، ودوابهم، وما يملكونه من ناطق وصامت، وكل ما يتعلق بهم: من كثير وقليل، وجليل وحقير، أمان لا يبقى معه خوف ولا جزع، في أول أمره ولا في آخره، ولا في عاجله ولا في آجله، ولا ضر، ولا مكر، ولا غدر، ولا خديعة، يخص ويعم، وتصان به النفس والمال، والولد والأهل، وكل ذات يد.
فليحضروا ببنيهم، وأهلهم وذويهم، وأقربائهم، وغلمانهم، وحاشيتهم، وجميع ما يملكونه من ناطق وصامت، ودان وقاص، وليصلوا بهم إلينا، وليفدوا بهم على حضرتنا الشريفة في ذمام الله تعالى وكلاءته، وضمان هذا الأمان. لهم ذمة الله تعالى وذمة رسوله سيدنا محمد نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم- أن لا ينالهم مكروه منا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرض إليهم بسوء ولا أذى، ولا يرنق لهم مورد بقذى؛ ولهم منا الإحسان، والصفاء بالقلب واللسان، والرعاية التي نؤمن بها سربهم، ونهنيء بها شريهم، ويطمئن بها خاطرهم، وترفرف عليهم كالسحاب لا ينالهم إلا ماطرهم.
فليحضروا واثقين بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا الأمان الشريف. وقد تلطفنا بهم ليزدادوا وثوقاً، ولا يجد سوء الظن بعد ذلك إلى قلوبهم طريقاً. وسبيل كل واقف عليه إكرامهم في حال حضروهم، وإجراؤهم على أكمل ما عهدوه من أمورهم؛ وليكن لهم ولكل من يحضر معهم وما يحضر أوفر نصيب من الإكرام، والقبول والاحترام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام، والصفح والرضا، والعفو عما مضى؛ وليتمسكوا بعروته الوثقى، فإنه من تمسك بها لا يضل ولا يشقى، وليشرحوا بالصفح عما مضى صدراً، ولا يخشوا ضيماً ولا ضراً، ولا يعرض كل منهم على نفسه شيئاً مما جنى واقترف، فقد عفا الله عما سلف.
ونحن نعرفهم أن هذا أمانا بعد صبرنا عليهم نيفاً وأربعين يوماً مع قدرتنا على دوس ديارهم وتخريبها، واستئصال شأفتهم، ولكنا منعنا من ذلك الكتاب العزيز والسنة الشريفة، فإننا مستمسكون بهما، وخوفنا من الله تعالى ومن نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وهم يغالطون أنفسهم ويظنون أن تأخيرنا عنهم عن عجز منا.
فليتقوا هذا الأمان الشريف بقلبهم وقالبهم، وليرجعوا إلى الله تعالى، وليصونوا دماءهم وأموالهم وأولادهم، وحرمهم وديارهم، فقد رأوا ما حل بهم من نكثهم وبغيهم. قال الله عز وجل: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}، وقال عز من قائل: {والموفون بعدهم إذا عاهدوا} في معرض المدح لمن وفى بعهده، وقال جل وعلا: {ثم بغي عليه لينصرنه الله}، وقال تبارك وتعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}، وقال تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه كن عليه» المكر والبغي والخديعة، وقال عليه السلام: {المرء مجزي بعمله}، وقال عليه السلام: {الجزاء من جنس العمل}، وقال أهل التصوف: الطريق تأخذ حقها، وقال أهل الحكمة: الطبيعة كافية، وقال الشاعر:
قضى الله أن البغي يصرع أهله ** وأن على الباغي تدور الدوائر!

ثم إنهم يعللون آمالهم بعسى ولعل، ويقولون: العسكر المصري. واصل إليهم نجدة لهم؛ وهذا والله من أكبر حسراتنا أن تكون هذه الإشاعة صحيحة، وبهذا طمعت آمالنا، وصبرنا هذه المدة الطويلة، وتمنينا حضوره ورجوناه، فإنه بأجمعه مماليك أبوابنا الشريفة، وقد صارت الممالك الشريفة الإسلامية المحروسة في حوزتنا الشريفة، ودخل أهلها تحت طاعتنا المفترضة على كل مسلم يؤمن بالله تعالى وبنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر: من حاضر وباد، وعربان وأكراد وتركمان، وقاص ودان؛ وهم يتحققون ذلك ويكابرون في المحسوس ويتعللون بعسى ولعل، ويقولون: ياليت، فيقال لهم: هيهات.
فليستدركوا الفارط قبل أن يعضوا أيديهم ندماً، وتجري أعينهم بدل الدموع دماً؛ وهذا منا والله أمان ونصيحة في الدنيا والآخرة؛ والله تعالى رب النيات، وعالم الخفيات، يعلمون ذلك ويعتمدونه؛ والله تعالى يوفقهم فيما يبدئونه ويعيدونه؛ والخط الشريف شرفه الله تعالى وأعلاه، وصرفه في الآفاق وأمضاه- أعلاه، حجة فيه.
قلت: وهذا الأمان أوله ملفق من كلام التعريف وغيره، وآخر كلام سوفي مبتذل نازل، ليس فيه شيء من صناعة الكلام.
تنبيه من غرائب الأمانات ما حكاه محمد بن المكرم في كتابه: تذكرة اللبيب أن رسل صاحب اليمن وفدت على الأبواب السلطانية في الدولة المنصورية قلاوون في شهر رمضان، سنة ثمانين وستمائة، وسألوا السلطان في كتب أمان لصاب اليمن، وأن يكتب على صدره صورة أمان له ولأولاده، فكتب له ذلك وشملته علامة السلطان، وعلامة ولده ولي عهده الملك الصالح علي وأعلمهم أن هذا مما لم تجر به عادة، وإنما أجابهم إلى ذلك إكراماً لمخدومهم، وموافقة لغرضه واقتراحه.
الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نواب الممالك الشامية:
وهو على نحو ما تقدم ذكره مما يكتب عن الأبواب السلطانية، إلا أنه يزاد فيه: وأمان مولانا السلطان وتذكر ألقابه المعروفة، ثم يؤتى على بقية الأمان، على الطريقة المتقدمة، ويقال في طرته: أمان كريم. ويقال في آخره: والعلامة الكريمة كما تقدم في التواقيع.
وهذه نسخة أمان كتب به عن نائب السلطنة بحلب في نيابة الأمير قشتمر المنصوري في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين لبعض من أراد تأمينه؛ وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمان مولانا السلطان الأعظم، العادل، الجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيد، المالك، الملك الأشرف، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الطغاة والمعتدين، مؤمن قلوب الخائفين والتائبين، ملك البحرين، صاحب القبلتين خادم الحرمين الشريفين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، ملك الأرض، الحاكم في طولها والعرض، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين شعبان ابن الملك الأمجد جمال الدنيا والدين حسين ابن مولانا السلطان الشهيد الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين محمد ابن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون - خلد الله ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه- إلى فلان بالحضور إلى الطاعة الشريفة: طيب القلب، منبسط الأمل، آمناً على نفسه وماله وأولاده، وجماعته وأصحابه ودوابه، لا يخاف ضرراً ولا مكراً، ولا خديعة ولا غدراً؛ وله مزيد الإكرام والاحترام، والرعاية الوافرة الأقسام، والعفو والرضا، والصفح عما مضى.
فليتمسك بعروة هذا الأمان المؤكد الأسباب، الفاتح إلى الخيرات كل باب، وليثق بعروته الوثقى، فإنه من تمسك بها لا يضل ولا يشقى؛ وليشرح بالصفح عما مضى صدراً، ولا يخش ضيماً ولا ضراً، ولا يعرض على نفسه شيئاً مما جنى واقترف، فقد عفا سلف؛ والخط الكريم- أعلاه الله تعالى- أعلاه حجة فيه.
قلت: ومما ينبغي التنبيه عليه في الأمانات، أنه إن احتاج الأمر في الأمان إلى الأيمان، أتى بها بحسب ما يقتضيه حال الحالف والمحلوف له، على ما تقدم ذكره في المقالة الثامنة.